مقالات وأراء

الدكتور محمد داود يكتب : أنبياء الله وحضارة الإيمان في مصر

 المتأمِّلُ في التَّاريخ يجد أن الحضارة الوحيدة من بين الحضارات البشريَّة التي كان الدِّينُ جوهرَها – هي الحضارة المصريَّة، فالإيمان محور أساسي في حضارة مصر. ولقد خصَّت العناية الإلهيةُ مصر بنصيب وافر من أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه عليهم، فكانت أرضُها منذ فجر التَّاريخِ مشرقة بأنوار النبوَّةِ والرسالة، ولو طوينا صفحاتِ الزَّمنِ وعُدنا إلى أواخر عمر آدم عليه السلام، نجد أنَّ ثالثَ أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم بعد آدم عليه السلام وابنه شيث، كان سيدنا إدريس عليه السلام ، الذي عاصر سنينَ عددًا من حياة أبي البشرِ آدم عليه السلام ، ونبى الله إدريس ابن مدينة منف المصريَّة (ميت رهينة). وخرج إدريس عليه السلام من مصرَ وجابَ بلادَ الله، ثمَّ عاد إلى مصر، وعلى أرضِها الطيِّبة آتاه الله النبوَّةَ، ودخلت مصر في دين الله، وعرفت التَّوحيد، واغترفت من بحر علم النبوَّة، واحتَمَتْ في حضن الرسالات السَّماويَّة مُنذُ البواكيرِ الأولى لفجر الإنسانيَّة في أواخرِ حياة أبي البشر آدم عليه السلام ، ووُلِدتْ حضارة الإيمان في مصر قبل سائر الحضارات.%d9%86%d9%8a%d9%84-%d9%85%d8%b5%d8%b1

 ولقد تحدَّثَ الحكماءُ وعلماء الآثار عن البُعد العلمي والحضاري في رسالة إدريس عليه السلام ، فمع دعوته إلى الإيمان بالله عز وجل كان أوَّل من استخرج الحكمةَ وعلم النجوم، وقد علَّمه الله أسرار الفَلَك، وأفهَمَه عدد السنين والحساب، ويذكر المؤرِّخون أنَّ كلَّ العلوم التي ظهرت قبل الطوفان كان منبعها سيِّدنا إدريس عليه السلام. ولقد أعلن القرآن عن علو منزلته، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا }

[ مريم : 56- 57] وإلى مصر العامرة الآمنة رحل أبو الأنبياء سيَّدنا إبراهيم الخليل عليه السلام ، ومن إحدَى بنات مصر أنجبَ ابنَه إسماعيل عليه السلام ، وقد زوَّجته أمُّه السيدة هاجر فتاةً مصريَّة أيضًا، فجاء منها نسل العرب العدنانيون كما يذكر المؤرِّخون.

وعلى أرض مصر صحِبَ لوط عليه السلام عمه الخليل إبراهيم عليه السلام وآمن برسالته، ومنها خرج رسولًا إلى أهل سدوم بالأردن. وإلى مصر جاء يوسف عليه السلام ، وباستدعاء من يوسف عليه السلام جاء إلى مصر نبي الله يعقوب عليه السلام والأسباط، {وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [يوسف: 99]. وعاش نبي الله يعقوب عليه السلام في مصر، وتوفي فيها بعد أن وصَّى بنيه بالإيمان بالله عز وجل ودين الإسلام، قال تعالى: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة/133].

وفي مصر وُلِد ونشأ وتعلَّم نبي الله موسى عليه السلام وأخوه هارون عليه السلام وفيها أرسل الله إليهما وأنزَلَ عليهما التوراة. وإلى مصر العامرة لجأ سيِّدنا عيسى عليه السلام مع أمِّه مريم سيدة نساء العالمين، طلَبًا للأمان والنجاةِ من بطش هيرودس، وجدَّد المسيح عليه السلام رسالة التَّوحيد والإيمان في مصر.

وحبيبُنا محمد صلى الله عليه وسلم أثنَى على مصر وأهلها ثناءً عاطرًا، ونالت مصر شرفًا عظيمًا حين تزوَّج رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من بناتها السيدة مارية القبطية، فكان لمصر أعظم الشَّرف إذْ كان أهلُها أخوالَ القاسم وإبراهيم ابنَي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحظيت مصر بنصيبٍ وافر من ودِّه وحبِّه ووصيته بقوله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكم سَتَفْتَحُونَ مِصْرَ، فاسْتَوْصُوا بأهْلِها خيرًا؛ فإنَّ لَـهم ذِمَّة ورَحِمًا». مسلم 7/190. وتحقَّقت نبوءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتح المسلمون مصر وخلَّصوا أهلها من بطش الرومان، فدخلوا في دين الله أفواجًا. ولَـمَّا تعرَّضَ أهلُ البيتِ رضى الله عنهم للمحنة الكبرى، كانت مصر مأوًى لهم، حيث سكنوا في قلوب أهلها قبل أن يسكنوا أرضها، وما زالت بركاتُهم تفيض على مصر وأهلها بروح السَّماحة والكرم والإيمان. ولقد أكرم الله مصر، وفضلها على كثير من المواضع على ظهر الأرض وتردد ذكر اسمها فى القرآن الكريم، وفى التوراة والإنجيل .

ففى القرآن الكريم تكرر ذكرها بصريح اللفظ, أو ما دلت عليه القرائن، فأما صريح اللفظ فورد خمس مرات في القرآن الكريم: – قوله تعالى مخبرًا عن نبيه يوسف عليه السلام:{وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } [ يوسف: ٢١ ]. – وقوله تعالى:{فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ} [ يوسف: ٩٩ ]. – وقوله تعالى على لسان فرعون:{وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ } [ الزخرف: ٥١ ]. – وقوله تعالى موجهًا الأمر لموسى عليه السلام: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [يونس: ٨٧] – وقوله تعالى لبنى إسرائيل:{اهْبِطُواْ مِصْراً فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ}[البقرة:٦١] . وربما كانت الإشارة هنا لديار مصر أو إلى أى مصر، أى: إلى أى مكان متحضر. وأما ما دلت عليه القرائن عن مصر بلفظ ( أرض ) فى مواضع كثيرة، منها ما جاء فى قصة يوسف وإخوته، وقصة موسى وبنى إسرائيل. قال تعالى على لسان يوسف: {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } [ يوسف: ٥٥]. – وقال تعالى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء} [ يوسف: ٥٦]. وفى قصة موسى، نرى حاشية فرعون يقولون له: {أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ}[ الأعراف: ١٢٧]. وإشارة موسى لقومه عن مصر فى لفظة الأرض فى قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ } [ الأعراف: ١٢٩]. – وقوله تعالى:{إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ }[ غافر: ٢٦]. – وقوله تعالى عن فرعون: { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا} [ القصص: ٤]. – وقوله تعالى: {إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأَرْضِ} [ القصص: ١٩]. – وقوله تعالى: { يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} [ غافر: ٢٩].

وهناك إشارات كثيرة فى القرآن الكريم إلى البلاد المصرية تفهم من السياق، فقوله تعالى عن بنى إسرائيل:{وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ }[ يونس: ٩٣]. – وقوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء: ٥٧ – ٥٨]. – وقوله تعالى عن قوم فرعون الذين كانوا فى مصر: {كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [ الدخان: ٢٥ – ٢٨ ]. – وقد ورد فى القرآن الكريم عن مريم ابنة عمران ووليدها عيسى وهروبهما إلى مصر، قال تعالى:{وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: ٥٠]، يقول عبد الله بن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما: هذه الربوة هى مصر. وستظل مصر بإذن الله تعالى أم الدنيا في الحضارات الماديَّة، وأم الدنيا بحضارة الإيمان، وسيظل هذا البلدُ آمنًا محفوظًا بعناية الله يحرُسُه بلُطفِه ويحميه من كلِّ مكروه. وما يعقلها إلا العالمون ، وما يتذكر إلا أولو الألباب .

اظهر المزيد

admin

مجلس إدارة الجريدة الدكتور أحمد رمضان الشيخ محمد القطاوي رئيس التحريـر: د. أحمد رمضان (Editor-in-Chief: Dr. Ahmed Ramadan) تليفون (phone) : 01008222553  فيس بوك (Facebook): https://www.facebook.com/Dr.Ahmed.Ramadn تويتر (Twitter): https://twitter.com/DRAhmad_Ramadan الأستاذ محمد القطاوي: المدير العام ومسئول الدعم الفني بالجريدة. الحاصل علي دورات كثيرة في الدعم الفني والهندسي للمواقع وإنشاء المواقع وحاصل علي الليسانس من جامعة الأزهر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى
Translate »